سورة المنافقون - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المنافقون)


        


{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)}
قوله تعالى: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: {لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا}. وقال: {لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ} فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبني. فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فأرسل إلي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: «إن الله قد صدقك» خرجه الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معنا أناس من الاعراب فكنا نبد الماء، وكان الاعراب يسبقونا إليه فيسبق الاعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع عليه حتى تجئ أصحابه. قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجرا فغاض الماء، فرفع الاعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره- وكان من أصحابه- فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله- يعني الاعراب- وكانوا يحضرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده. ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلف وجحد. قال: فصدقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبني. قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبك والمنافقون. قال: فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع على أحد. قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال أبشر! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لابي بكر. فلما أصبحنا قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المنافقين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وسيل حذيفة بن اليمان عن المنافق، فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان». وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر». أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا، وخبره صدق. وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال: إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وأتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال، شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق. وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق. وقد مضى في سورة براءة القول في هذا مستوفي والحمد لله.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى». والمعنى: المؤمن الكامل إذا حدث صدق. والله اعلم. قوله تعالى: {قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قيل: معنى نَشْهَدُ نحلف. فعبر عن الحلف بالشهادة، لان كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب ومنه قول قيس بن ذريح.
وأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا لها عندي فما عندها ليا
ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعترافا بالايمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} كما قالوه بألسنتهم. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم.
وقال الفراء: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ بضمائرهم، فالتكذيب راجع إلى الضمائر. وهذا يدل على أن الايمان تصديق القلب، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب. ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب. وقد مضى هذا المعنى في أول البقرة مستوفي وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56].


{اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} أي سترة. وليس يرجع إلى قوله نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال.
وقال الضحاك: يعني حلفهم بالله انهم لمنكم وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة براءة إذ قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا} [التوبة: 74].
الثانية: من قال أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله، فقال في ذلك كله بالله فلا خلاف أنها يمين. وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال: أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف، ولم يقل بالله، إذا أراد بالله. وإن لم يرد بالله فليس بيمين. وحكاه الكيا عن الشافعي، قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى اليمين كان يمينا.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا، ولو قال أشهد لقد كان كذا دون النية كان يمينا لهذه الآية، لان الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً. وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين، لان قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} ليس يرجع إلى قوله: قالُوا نَشْهَدُ وإنما يرجع إلى ما في براءة من قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا} [التوبة: 74].
الثالثة: قوله تعالى: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي أعرضوا، وهو من الصدود. أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي واخذ الأموال، فهو من الصد، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويقتدي بهم غيرهم.
وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، بإن يقولوا ها نحن كافرون بهم، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالا. فبين الله أن حالهم لا يخفي عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الايمان أجرى عليه في الظاهر حكم الايمان. {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئست أعمالهم الخبيئة- من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله- أعمالا.


{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)}
هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب.
وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا {فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها بالكفر {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} الايمان ولا الخير. وقرأ زيد بن علي فطبع الله على قلوبهم.

1 | 2 | 3 | 4